وداعا حاجة عشة (الشايقية)
طارق جبريل:
الاسم: عائشة
اسم الأب: يوسف محمد أبو دية
اسم الأم: فردوس الريح محمد
تاريخ الميلاد: 1925
مكان الميلاد: البركل مركز مروي
هكذا تقول شهادة ميلادها بالتسنين...
طافت برأسي هذه المعطيات وأخرى كثيرة وأنا في طريقي من الرباط إلى مطار محمد الخامس بالدار البيضاء...
- سلام ابراهيم... كيف الحاجة الليلة
- صمت رهيب... طارق الدوام لله
كأنما الزلزال الذي ضرب الدار البيضاء من اسبوعين قد أعاد كرته مرة أخرى...
لكن هذه المرة تحت قدمي أنا لا غيري..
لم أفهم حينها الكلمتين أو لنقل أنني وددت أن لا استوعبهما...
كانت تجلس قبالتي في القطار سيدة مسنة تحمل سبحة في يدها كانت في حالة دوران مستمر...
حاولت أن أداري دموعي عنها... لكن بحدسها عرفت أن هناك ألما يعتصرني..
- إنت مسافر لبلدك يا ولدي
- نعم والدتي..
- الله يوصلك بخير... أنا ذاهبة لاستقبال ابنتي
- آمين..
نعم سيدتي أنا ذاهب إلى هناك، لكن هذه المرة تختلف عن مثيلاتها..
هذه المرة أنا ذاهب لوداع أمي وهي تحت الثرى...
لن أستطيع معانقتها كما تعودت...
ولن تستطيع هي حمل أطفالي في حجرها كما كانت تحب..
إدرت بصري إلى نافذة القطار وهو يقطع حقول القمح الممتدة امتداد الأفق..
شكل الخراف المتناثرة هنا وهناك ذكرتني بأول "مرتبة" صنعتها لي أمي..
فغرز الخيط في أواسط "المرتبة" كان أشبه بتناثر تلك الخراف..
- الليلة عملت ليك "مرتبة" جديدة وكمان بتاع العناقريب نسج ليك واحد جديد عشان انت حا تدخل المدرسة..
فجأة قفذ إلى ذاكرتي يوم قادتني إلى المدرسة الابتدائية والحوار الذي دار بينها وبين مدير المدرسة...
- السلام عليكم.. ياخي أنا عايزة اسجل الولد دة
- كويس وينا شهادة ميلاده
- ياخي أنا لا بعرف شهادة ميلاد ولا حاجة أبوهو مسافر وأخوهو الكبير في داخلية الجامعة لمن يجوا بيدوك الأنت عايزو
- (ضاحكا) خلاص سجلناهو ليك
ونحن في طريق العودة إلى المنزل سألتها:
- يمة إنت ليه ما دخلت المدرسة؟
- دخلت يا ولدي يوم واحد بس.. جدك الله يرحمه سجلني في المدرسة في مروي والصباح وصلني وقال لي ترجعي مع البنات
عشان هو مسافر في مامورية لي دنقلا ستة شهور مع البوليس.. ولمن رجعت الضهر حبوبتك الله يرحمها نهرتني وقالت لي ما
عندنا بنات بيدخلوا مدارس .. يا ريتها لو خلتني كان هسا بقيت حاجة كبيرة..
- حاجة كبيرة زي شنو؟
- ما بعرف بس نفسي كان أكون معلمة
نعم عزيزتي حلمي وحلمك لم يكونا كبيرين... غرفة مسقوفة بسعف النخيل وسترة الحال.. كانت تلك كل أمانينا..
لم يكن يعنينا لا جاه ولا سلطة.. تركناها لحكامنا الذين يسكنون القصر الجمهوري منذ الاستقلال إلى الآن..
لكن هم لم يتركونا لأحلامنا البسيطة.. راحوا يضيقون علينا حتى ضربنا أصقاع الأرض بحثا عن لقمة العيش
لم يتيحوا لي عناقك من جديد.. حرموني حتى من حمل نعشك إلى مثواه الأخير... سامحهم الله..
يصعب استيعاب ما حدث...
كما يصعب جدا تخيل سودان أنت لست فيه..
رحمك الله بقدر المحبة التي كنت تنشريها بين الناس..
رحمك الله حاجة عشة (الشايقية كما كان يحلو لأهل الامتداد مناداتها)
إنا لله وإنا إليه راجعون
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الشكر لكل من كتب حرفا هنا أو هاتفني أو حضر إلي معزيا